كأَننى أراه فوقَ جملِه الأحمر ،خطيباً فصيحاً مفوهاً يخطب في الناس في اجتماعهم السنوى بسوق عكاظ،فتتسلل كلماتُه لتسكن أرواح الموحدين على مدَى الزمان . يغمرنى هذا الشعور كلما قرأتُ قصتَه فى سلسلة البداية والنهاية للرائع ابن كثير .
قس بن ساعدة الإيادى وخطبته البليغة فى سوق عكاظ
ولِمَّ لا أستشعر ذلك .بل وأنتم كذلك والرسول الكريم يذكر انه لا ينسي هذا المشهد. إذن هلموا إلى رواية إبن كثير ، وهويسرد ما كان من خبر قس بنى ساعدة الإيادى . الرجل الذى عاش قبيل بعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
قدوم وفد قبيلة قس بنى ساعدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
يَروى أنه قَدِمَ وفدُ من قبيلة قس بنى ساعدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . وكان يتقدم الوفد الجارود بن المعلى وكانَ رجلاً نصرانياً ،حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها . عالماً بسير الفُرس وأقاويلها . بصيراً بالفلسفةِ والطب . ظاهر الدهاء والأدب . كامل الجمال ، ذا ثروة ومال ، وأنه قدِمَ على النبى صلى الله عليه وسلم .وافدًا فى رجالٍ من عبد القيس ذوى آراءٍ وأسنان وفصاحةٍ وبيان و حججٍ وبرهان . فلما قَدِمَّ على النبى صلى الله عليه وسلم .وقف بين يديه وأشارَ إليه وأنشأ يقول :-
يانبىَّ الهُدى أتتك رجالٌ
قطعت فدفداً وآلا فآلا
وطوت نحوك الصحاصح تهوى
لا تعدَّ الكلال فيك كلالا
كل بهماء قصَّر الطرف عنها
أرقلتها قِلاصُنا ارقالا
وطوتها العتاقُ يجمح فيها
بكماةٍ كأنجمٍ تتلالا
تبتغى دفع بأس يومٍ عظيمٍ
هائلٍ أوجع القلوب وهالا
ومزادا لمحشر الخلق طراً
وفراقاً لمن تمادى ضلالا
نحو نورٍ من الإله وبرهانٍ
وبرٍ ونعمةٍ أن تنالا
خصك اللهُ يا ابن آمنةالخيرِ
بها إذ أتتك سجالا سجالا
فاجعل الحظ منك ياحُجة اللهِ
جزيلا لا حظَّ خُلفٍ أحالا
سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن قس بن ساعدة الإيادى
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن قس بن ساعدة فما أنساه بعكاظ فى الشهر الحرام وهو على جملٍ أحمر . وهو يخطب الناس . وهو يقول : يأيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا ، منْ عاشَ مات ، ومنْ ماتَ فات ، وكلُ ما هو آتٍ آت . إنَّ فى السماءِ لخبرا ، وإنَّ فى الأرضِ لعبرا ، مهادٌ موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تمور ، وبحارٌ لا تغور ْ . وأقسم قسٌ قسماً حقاَ لئن كان فى الأمر رضا ليكون بعده سخط .إنَّ لله لديناًهو أحبُّ إليه منْ دينكم الذى أنتم عليه . مالى أرى الناس يذهبون ولا يرجعون . أرضوا بالمقام فأقاموا .أم تُركوا فناموا .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أفيكم منْ يروى شعره ؟ فأنشده بعضهم :
فى الذاهبين الأولين
من القرون لنا بصائر
لمَّا رأيت موارداً للموت
ليس لها مصادر
ورأيتُ قومى نحوها
يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضى إلى
ولا من الباقين عابر
أيقنتُ أنى لا محالة
حيث صار القوم صائر
رواية الجارود الطريفة عن قس بن ساعدة الإيادى.
يروى ابن كثير فى البداية والنهاية : ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادى ؟ قال الجارود : فداك أبى وأمى كلنا نعرفه ، وإنى منْ بينهم لعالم بخبره واقف على أمره .كان قسٌ يارسول الله سبطاً من أسباط العرب . عمَّر ستمائة سنة ؟ تقفر منها خمسة أعمار ،فى البرارى والقفار .يضج بالتسبيح على مثال المسيح . لا يقره قرار ، ولا تكنه دار ، ولا يستمتع به جار ، كان يلبس الأمساح ويفوق السياح ، ولا يفتر من رهبانيته . يتحسى فى سياحته بيض النعام ، ويأنس بالهوام ، ويستمتع بالظلام ، يُبصر فيعتبر ، ويفكر فيختبرْ ،فصار لذلك واحدًا تُضرب بحكمته الأمثال ،وتُكشف بهِ الأهوال أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب ووحد وأقر وتعبد ، وأيقن بالبعث والحساب ، وحذر سوء المآب ، وأمر بالعمل قبل الفوت ،ووعظ بالموت ، وسلم بالقضاء ، على السخط والرضا ، وزار القبور وذكر النشور ،وندب بالأشعار، وفكر فى الأقدار ، وأنبأ عن السماء والنماء ، وذكر النجوم وكشف الماء ووصف البحار ، وعرف الآثار وخطب راكباً ووعظ دائباً ، وحذر من الكرب ومن شدة الغضب ،ورسل الرسائل ن وذكر كل هائل ، وأرغم فى خُطبه وبيَّن فى كتبه ،وحذر الأزر ، وعظم الأمر ،وجنَّب الكفر ، وشوَّق إلى الحنيفية ، ودعا إلى اللاهوتية ،وهو القائل فى يوم عكاظ : شرقٌ وغرب ، ويتمٌ وحزب ، وسلمٌ وحرب ، ويابس ورطب ،وأُجاجٌ وعذب ،وشموس وأقمار، ورياحٌ وأمطار ،وليل ونهار ،وإناث وذكور ، وبرار وبحور ، وحبٌ ونبات وآباء وأُمهات ،وجمعٌ وأشتات ،وآيات فى إثرها آيات ،ونورٌ وظلام ، ويسرٌ وإعدام وربٌ وأصنام ، لقد ضل الأنام ،نشوّ مولود ،ووأد مفقود ، وتربية محصود ،وفقيرٌ وغنى ومحسنٌ ومسىء ،تباً لأرباب الغفلة . ليصلحن العامل عملَه ،وليفقدنَّ الآمل أمله ،كلا بل هو إلهٌ واحد،ليس بمولودٍ ولا والد ،أعاد وأبدى ، وأمات وأحيا ، وخلق الذكر والأنثى ،رب الآخرة والأولى ، أما بعد : فيامعشر إياد ، أين ثمودٌ وعاد ؟ وأين الآباء والأجداد ؟ وأين العليل والعواد ؟ كلٌ له ميعاد .يقسم قسٌ برب العباد ، وساطح المهاد ، لتحشرنَّ على الإنفراد ، فى يوم التناد ، إذا نُفخ فى الصور ،ونُقر فى الناقور ، واشرقت الأرض ،ووغظ الواعظ ، فانتبذ القانط ، وأبصر اللاحظ ، فويلٌ لمن صدف عن الحق الأشهر ، والنور الأزهر ،والعرض الأكبر ، فى يوم الفصل ،وميزان العدل، إذا حكم القدير ، وشهد النذير ،وبعد النصير ،ففريق فى الجنة وفريق فى السعير ،
وما ذكرته هنا من هذا الحديث إنما هو غيض من فيض تجولوا فى هذه الصفحات فإن السياحة فيها ممتعة.
اترك تعليقا