لو نقلت لكم سطوراً من بطون الكتب التى تؤرخ لهذه الأيام ، لظننتمونى إنما ظفرت بالنسخة الأصلية من كتاب (ألف ليلة وليلة ) ذو الخيالات الجامحة تماماً . ولكنها حقائق تواترت بها روايات المؤرخين ، وتمَّ ذكرُها منْ مصادر شتى .
وصف بغداد و مدح بغداد
فى السنة السادسة والثلاثين بعد المئة الأولى للهجرة ،بويع لأبى جعفر المنصور خليفةً للمسلمين ، وبدأ تأسيس مدينته فى السنة الخامسة والأربعين بعد المئة ،وسمَّاها مدينة السلام .
لمَّا نوى المنصور بناء المدينة ، أرسل روَّادًا ، ليختاروا أفضل موضع ، قالوا : ياأمير المؤمنين نرى أنْ تبنى على شاطىْ دجلة ، تُجلبُ إليها الميرة والأمتعة من البرِ والبحر ، ويأتيها الماء من دِجلة والفرات ، وتحمل إليها ظرائف الهند والصين ، وتأتيها ميرةُ أرمينية وآذريبيجان وديار بكر وربيعة ،ولا يحملُ الجند الكثير إلا هذا الموضع .
وعندما عزمَ على البناء ، أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء وعلم المساحة وقسمة الأرضين ، وشرح لهم صفة المدينة كما يتخيلها . ثم أحضر الصنَّاع من النجارين والحدادين وغيرهم ، وكتب إلى كل بلد فى حمل ممن يفهم شيئًا من أمر البناء . حتى تكامل لديه من أهل المهن والصناعات ألوفٌ كثيرة .وأجرى عليهم الأرزاق . ثم اختطها وجعلها مدينة مدورة ، وسماها مدينة السلام .
وبنى الخليفة للمدينة أربعة بواب . وعمل عليها الخنادق ، وعمل لها سورين ، السور الداخلى أعلى من الخارجى . ثم بنى القصر والمسجد . وتفاصيل ذلك تنوء به المكتبات . ومما قيل فيها :
أعاينتَ فى طول من الأرضِ والعرضِ
كبغداد من دارٍ إنها جنة الأرضِ
صفا العيشُ فى بغداد واخضر عودُه
وعيش سواها غير خفض ولا غضِ
تطولُ بها الأعمارُ ، إنَّ غذاءَها
مرىء ، وبعض الأرضِ أمرأ من بعضِ
بل انظروا وتأملوا قولَ احدهم يصف جسرًا على نهر دِجلة ، وأنظروا مدى الرفاهية .
يومٌ سرقنا العيش فيه خلسةً
فى مجلسٍ بفناِء دِجلة مُفردِ
رقَّ الهواءُ برقةٍ قُدامه
فغدوتُ رِقًا للزمانِ المسعدِ
فكأن دجلة طيلسانٌ أبيضٌ
والجسر ُ فيهِ كالطراز الأسودِ
فيصف الجسر وكأنه تطريزٌ أسود علي ثوب أبيض (لاحظوا مفارقة الألوان )
أسواق بغداد .
نصح الناصحون الخليفة المنصور أن يجعل الأسواق خارج المدينة . حتى لا يسهل على الجواسيس الإندساس فى الأسواق وإستشراف أسرار الدولة . ولذا نظم الأسواق كل صنفٍ على حِدة بالكرخ خارج المدينة . وجعل سوق القصابين (الجزارين ) أبعد الأسواق .
ولأننا أتينا على ذكر الأسواق فلنذكر نصًا أدبيًا يرسم لنا كنهها فى ذلك الزمان . وهو فن المُقامة الذى نشأ فى عصر العباسيين وكان الغرض منه فى البداية تعليم النشء القراءة والكتابة ، ثم أصبح فنًا أدبيًا مُستقلا والذى يكاد ينقرض أيامنا هذى . ومن أهم كتاب المقامات فى العصر العباسى بديع الزمان الهمذانى (لاحظوا طرافة إسمه ) ، وأبو القاسم الحريرى . وأسرد لكم واحدة للهمذانى .
مقامة بديع الزمان الهمذانى
يروى على لسان بطل قصصه (عيسى بن هشام ):
حدثنا عيسى بن هشام قال: اشتهيت الأزاذ (تمر فاخر ) وأنا ببغداد وليس معى عقدٌ على نقد (أى مفلس ) فخرجتُ أنتهز محالَّة بالكرخ فإذا بسوادى (قروى ) يسوق بالجهدِ حماره ، ويطرِّف بالعقد إزاره ، فقلتُ والله ظفرنا بالصيد ، وحيَّاك الله أبا زيد ، مِن أينَ أقبلتْ ؟ وأين نزلت ْ ؟ ومتى وافيت ؟ وهلمَّ إلى البيت . فقال السوادى : لستُ بأبى زيد ولكنى أبو عبيد .
فقلتُ : نعم ، لعن الله الشيطان . وأبعد النسيان ، أنسانيك طول العهد ، وإتصال البعد . فكيف حالُ أبيك ؟ أشابٌ كعهدى ؟ أم شاب بعدى ؟ فقال قد نبت الربيع على دمنته (مات من زمن ) ، وأرجو أن يصيره الله إلى جنته .فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العلى العظيم . ومددت يًد البدار إلى الصدار أُريد تمزيقه (يعنى أنه سيمزق ملابسه حزنا )فقبض السوادى على خصرى بجمعه (قبضته ) ، وقال نشدتك الله لا تمزقه .
فقلتُ : هلم إلى البيت نُصب غذاء ، أو السوق نشتر شواء ، والسوق أقرب وطعامه أطيب . فاستفزته حُمة القرم (شهوة الأكل ) وعطفته عاطفة اللقم . وطمع ولم يعلم أنه وقع ، ثم أتينا شوَّاء يتقاطر شواءُه عرقًا ، وتتسايل جواذباته (خبزه ) مرقًا ، فقلتُ :افرز لأبى زيد من هذا الشواء ، ثم زِنْ له من تلك الحلواء ، وأختر لهُ من تلك الأطباق ،وانضد عليها أوراق الرقاق ،ورُش عليه شيئاً من السُماق ،ليأكله أبو زيد هنيا . فانحنى الشواء بساطوره ، على زبدة تنوره . فجعلها كالكحل سحقًا وكالطحن دقًا ، ثم جلس وجلست ،حتى أستوفينا ، وقلت لصاحب الحلوى ، زِنْ لأبى زيد من اللوزينج (اللوزية ) رطلين ،فهو أجرى فى الحلوق ، وأمضى فى العروق ،وليكن ليلَّى العُمر(صُنع اليلة )يومى النشر (طازج ) رقيق القشر ، كثيف الحشو، لؤلؤى الدهن . كوكبى اللون ، يذوب كالصمغ قبل المضغ . ، ليأكله أبو زيد هنيا .
قال : فوزنه ثم قعد وقعدت ، وجرد وجردت . حتى استوفيناه . ثم قلت : يأبا زيد ما أحوجنا إلى ماءٍ يشعشع بالثلج . ليقمع هذه الضارة ،ويفثا هذه اللقم الحارة ، اجلس ياأبا زيد حتى نأتيك بسقاء ، يأتيك بشربة ماء ،ثم خرجتُ وجلست بحيث أراه ولا يراني ، انظر ماذا يصنع . فلما أبطأت عليه قام السوادى إلى حماره ، فاعتلق الشواء بإزاره وقال: أين ثمن ما أكلت ؟ فقال أبو زيد : أكلته ضيفًا ، فلكمه لكمة وثنى عليه بلطمة
ثم قال الشواء : هاك ومتى دعوناك ؟ زِن ياأخا ال(شتيمة ) عشرين فجعل السوادى يبكى ،ويحل عقده بأسنانه ويقول : كم قلتُ لهذا القريد(تصغير قرد ) أنا ابو عبيد ويقول ابا زيد .
وهنا لاحظوا مهارة الطاهى ، ورائحة الشواء الشهى ، طراوة الخبز الطازج ، بل ومناظر الحلوى الشهية وأصنافها ، وأذكركم نحن الآن فى بغداد حوالى 750 ميلادية .
بل يصف ابن الرومى الشاعر العباسى (الذى توفى حوالى 285 هجرية ) يصف خبازًا بالسوق .
إن أنسَ لا أنسَ خبازًا مررتُ بهِ
يدحو الرقاقةَ وشكَ اللمحِ بالبصرِ
ما بينَ رؤيتها فى يدهِ كرةً
وبين رؤيتها قوراءَ كالقمرِ
إلا بمقدار ما تنداح دائرةٌ
فى صفحة الماء يُرمى فيه بالحجرِ
السقاءون فى بغداد
نبدأ بذكر فئة ، من الفئات الأدنى ترتيبًا فى درجات المجتمع ، لنلحظ سويًا مدى رُقى الذوق وسمو الإدراك الإنسانى . يروى ذو النون (وهو أبو الفيض ذو النون ثوبان بن إبراهيم كان أبوه من النوبة بجنوب مصر ) يقول : منْ أرادَ أنْ يتعلم المروءَة والظُرف فعليهِ بسقاةِ الماءِ ببغداد . قِيلَ له :وكيف ذاك ؟ فقال : لمَّا حُملتُ إلى بغداد رُمىَّ بِى على باب السُلطا نِ مُقيدًا ، فمر بى رجلٌ مُتزر بمنديل مصرى ،مُعتمٌ بمنديلٍ ديبقى ، بيده ِ كيزان (أى أكواب ) خزف رِقاق وزجاج مخروط . فسألت : هذا ساقى السُلطان ؟ فقِيلَ لِى :لا هذا ساقى العامة ، فأومأتُ إليه : اسقنى ، فتقدم وسقانى فشممتُ من الكوزِ رائحة المِسك ، فقلتُ لمنْ معى : إدفع إليهِ دينارًا فأعطاه الدينار فأبَى . وقالَ : ليس آخذ شيئًا .فقلتُ له : ولِمَّ ؟ فقال أنتَ أسير وليسَ من المروءة أنْ آخُذ منك شيئًا . فقلتُ : كَمُلَ الظُرفُ فى هذَا .
ويصور لنا راوى القصة أو لنقل (اللقطة ) الساقى يرتدى زياً خاصًا ، نظيفاً حتى ظن أنه ساقى السلطان. بل وأكثر أكوابه كثيرة رقيقة ونظيفة لها رائحة المسك وهو معتدٌ بمهنته . ويحرص على الثوابت الأخلاقية ، فهو لا يتقاضى ثمن الماء من الأسرى .
الأدباء والكُتاب فى بغداد
لو كتبتُ عنواناً هكذا فلا شك أننى أمزح . إذ أنَّ بغداد مثلًا فى زمن العباسيين .هى ا لزمن الذهبى للكُتاب والأدباء والعلماء والمترجمين وبالتأكيد الشعراء وكل أبواب المعارف .ولن تكفى ربما آلاف التدونات الإحاطة بالعناوين فقط . ولكن سأختار معكم شخصية مميَّزة جِدًا من الأدباء الظُرفاء اظنكم عرفتموه إنه الجاحظ من أعلام زمانه .
الجاحظ بعض سيرته وبعض كتبه
كان إبن العميد وهو من مشاهير كُتاب ذاك الزمان . إذا طرأ عليه أحد من مُنتحلى العلوم والآداب ، وأراد إمتحان عقله سأله عن بغداد ، فإن علِّم عنها جعل ذلك عنوان عقله ،ثمَّ سأله عن الجاحظ ، فإذا وجد فيه أثرًا لمطالعة كُتبه أى كُتب الجاحظ قضى له إبن العميد أنه من أهل العلم والأدب . إذن منْ هو الجاحظ حتى يتخذوا العلم بكتبه فيصلًا فى الترجيح والإختيار ؟
لم يكن الجاحظ وسيمًا بل دميمًا ، ولم يكن ميسورًا بل مُعدمًا . أما عن دمامته يقولون أنَّ إمرأة ذهبت إلى دكاكين الصاغة فى زمن الجاحظ ، الذين يصنعون الحُلى ،وقالت للصائغ : إصنع لى خاتمًا عليه وجه الشيطان ؟ وهنا اندهش الصائغ قائلا : ولكنى لم أرى الشيطان فى حياتى ياسيدتى ، فما كان من المرأة إلا أن أخذته إلى الجاحظ وقالت له : مثل هذا .
وأقول: لو عاش الجاحظ فى زماننا ، إذن لأكله الإكتئاب من تنمر االناس عليه . ولما استمتعنا بفكره الموسوعى ، وذلك رغم أنَّ الإسلام نهى مشددًا عن سخرية البعض من البعض . وأن معيار المفاضلة بين المسلمين حسب التقوى .
أما حكاية الجاحظ كما يرويها الرواة . وُلد سنة تسع وخمسين بعد المائة للهجرة ، فى خلافة المهدى ثالث الخلفاء العباسيين ،وكان صبيًا يبيع الخبز والسمك فى سوق البصرة ، ثم بدأ يأخذ العلم على أعلامه ،فأخذ عِلم اللغة لعربية وآدابها عن الأصمعى ، ودرس النحو على الأخفش ، وتبحر فى علم الكلام على يد إبراهيم ن سيَّار . وكان يذهب إلى مربد البصرة فيأخذ اللغة مشافهةً من الأعراب ، بل كان يستأجر دكاكين الوراقين ويبيت فيها ليقرأ كل ما فيها من كتب مؤلفة أو مترجمة ، ويناقش حنين بن إسحق فيتعرف على الثقافة اليونانية ،ويقرأ لإبن المقفع ليتعرف على الثقافة الفارسية .جمع تقريبًا كل الثقافات السائدة فى عصره يونانية وهندية وعربية وفارسية وكتب فى علوم عديدة منها علم الكلام . والأدب والسياسة والتاريخ والنبات والحيوان والصناعة والسلطان والقضاة والجند واللصوص وعاصر إثنى عشر من الخلفاء العباسيين .ولابد من ملاحظة أن الجاحظ لم يكن متفردًا لكنها كانت سمة العصر .
الكلام عن بغداد يطول ويطول ، ولكن ما أذكره مغموسًا بلألم عندما يخامر الدول الإسراف فى الترف ولكنى أتوسم عودتها عامرة كأحسن مما كانت عليه .
اترك تعليقا